كلمة في وداع رمضان
×××××××××××××××
ها هو شهر الخير قد قوضت خيامه ، وتصرمت أيامه ،
فحق لنا أن نحزن على فراقه ، وأن نذرف الدموع عند وداعه .
وكيف لا نحزن على فراقه ونحن لا ندري هل ندرك غيره أم لا ؟
كيف لا تجري دموعنا على رحيله ؟ ونحن لا ندري هل رفع لنا فيه عمل صالح أم لا ؟
وهل ازددنا فيه قرباً من ربنا أم لا ؟ كيف لا نحزن عليه وهو شهر الرحمات ،
وتكفير السيئات ، وإقالة العثرات ؟!
يمضى رمضان بعد أن أحسن فيه أقوام وأساء آخرون ، يمضى وهو شاهد لنا أو علينا ،
شاهد للمشمر بصيامه وقيامه وبره وإحسانه ، وشاهد على المقصر بغفلته وإعراضه ونسيانه .
رمضان سوق قام ثم انفض ، ربح فيه من ربح وخسر فيه من خسر ، فلله كم سجد فيه من ساجد ؟
وكم ذكر فيه من ذاكر ؟ وكم شكر فيه من شاكر ؟ وكم خشع فيه من خاشع ؟
وكم فرّط فيه من مفرِّط ؟ وكم عصى فيه من عاص ؟ .
ارتحل شهر الصوم ، فما أسعد نفوس الفائزين ، وما ألذ عيش المقبولين ،
وما أذل نفوس العصاة المذنبين ، وما أقبح حال المسيئين المفرطين .
لابد من وقفة محاسبة جادة ننظر فيها ماذا قدمنا في شهرنا من عمل ؟
وما هي الفوائد التي استفدناها منه ؟ وما هي الأمور التي قصرنا فيها ؟
فمن كان محسناً فليحمد الله وليزدد إحسانا وليسأل الله الثبات والقبول والغفران ،
ومن كان مقصراً فليتب إلى مولاه قبل حلول الأجل .
تذكر أيها الصائم وأنت تودع شهرك سرعة مرور الأيام ، وانقضاء الأعوام ،
فإن في مرورها وسرعتها عبرة للمعتبرين ، وعظة للمتعظين قال عز وجل:
{
يقلب الله الليل والنهار إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار } (النور 44) ،
بالأمس القريب كنا نتلقى التهاني بقدومه ونسأل الله بلوغه ، واليوم نودعه بكل أسىً ،
ونتلقى التعازي برحيله ، فما أسرع مرور الليالي والأيام ، وكر الشهور والأعوام .
والعمر فرصة لا تمنح للإنسان إلا مرة واحدة ، فإذا ما ذهبت هذه الفرصة وولت ،
فهيهات أن تعود مرة أخرى ، فاغتنم أيام عمرك قبل فوات الأوان ما دمت في زمن الإمكان ،
قال عمر بن عبد العزيز : " إن الليل والنهار يعملان فيك ، فاعمل أنت فيهما " ،
وقال ابن مسعود رضي الله عنه :
"ما ندمت على شيء ندمي على يوم غربت شمسه نقص فيه أجلي ولم يزد فيه عملي " .
وتذكر دائماً أن العبرة بالخواتيم ، فاجعل ختام شهرك الاستغفار والتوبة ،
فإن الاستغفار ختام الأعمال الصالحة ، وقد قال عز وجل لنبيه - صلى الله عليه وسلم- في آخر عمره :
{
إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان تواباً } (سورة النصر) ، وأمر سبحانه الحجيج بعد قضاء مناسكهم وانتهاء أعمال حجهم بالاستغفار فقال جل وعلا :
{
ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم } (البقرة 199) .
[size=21] كان سلفنا الصالح رضوان الله عليهم يجتهدون في إتمام العمل وإتقانه ثم يهتمون بعد ذلك بقبوله ويخافون من رده ،
كما وصف الله عباده المؤمنين بأنهم : {يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون } وروى الترمذي ،
عن عائشة - رضي الله عنها - زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت :
سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن هذه الآية والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة
قالت عائشة : أهم الذين يشربون الخمر ويسرقون ؟ قال :
لا يا بنت الصديق ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون وهم يخافون ألا يقبل منهم أولئك الذين يسارعون في الخيرات .
وقال الحسن : لقد أدركنا أقواما كانوا من حسناتهم أن ترد عليهم أشفق منكم على سيئاتكم أن تعذبوا عليها فهل شغلك أخي الصائم هذا الهاجس وأنت تودع شهرك ، قال علي رضي الله عنه :
" كونوا لقبول العمل أشد اهتماماً منكم بالعمل ،
ألم تسمعوا إلى قول الحق عز وجل : {إنما يتقبل الله من المتقين } ( المائدة 27) ،
وكان ينادي في آخر ليلة من شهر رمضان :
" ياليت شعري من هذا المقبول منَّا فنهنيه ومن هذا المحروم فنعزيه ، أيها المقبول هنيئاً لك ، أيها المردود جبر الله مصيبتك " .
وأحسن لنا الختام ، اللهم اجبر كسرنا على فراق شهرنا ،
وأعده علينا أعواماً عديدة وأزمنة مديدة ، واجعله شاهداً لنا لا علينا ،
اللهم اجعلنا فيه من عتقائك من النار .